قصة نجاح

المرحوم ملا عبدالمحسن بن محمد بن حسين النصر

في الواقع أن الحديث عن سيرة الراحل عبدالمحسن النصر هو محاولة صادقة للاقتراب الحثيث من مفهوم رجل الدين المستنير الذي أمكنه ان يجدد خطابه الفكري، وأن ينفتح بقوة على ثقافات تتجاوز النمطية والرؤى التقليدية الضيقة إلى آفاق أوسع وأرحب.

لقد جعل الرجل من قضايا مجتمعه هاجسه الأول، محاولا أن يضئ شموعا في نبذ الطائفية والخلافات المذهبية، والفوارق المجتمعية، والانشقاقات الفكرية التي لا تصب في صالح الوطن جميعه.

هو إذن خطيب عصري بكل معنى الكلمة، وهذا لم يكن خبط عشواء بل نتيجة متوقعة لرجل صاحب أفق فكري مستنير، يبتغي الحقيقة التي هي هدف كل إنسان صاحب موقف أصيل وتوجه حقيقي.

انطلق الرجل من واقعه المحلي ليستطع نجمه في حدود الممكن لتكون له إضافاته القوية، عميقة الأثر، ولم لا وعبدالمحسن النصر هو ابن نجيب لرعيل من جيل الريادة والتفوق والمعرفة.

إضافة لدوره الشعري الذي اتسم بالقوة وتناول موضوعات بالغة الحيوية والأصالة.

اتجه الخطيب عبدالمحسن النصر بتلك القريحة المتقدة لمعالجة العديد من القضايا الاجتماعية والثقافية بشكل يجمع بين الفائدة وجماليات النص الذي يرتبط بمجتمعه وقضاياه الملحة أيما ارتباط.

ولد عبدالمحسن النصر بسيهات بتاريخ 1327 هـ «يوافق 1909م»، وتوفي في 22 جمادي الآخرة 1411 هـ «الموافق 8 يناير 1991 م»، وهو ما يعني انه قد رحل عن دنيانا عن عمر يقدر بنحو أربعة وثمانين عاما هجريا.

تربى ونشأ في أسرة معروفة بمدينة سيهات، فوالده محمد بن نصر شقيق عمدة سيهات المرحوم الحاج عبد الله بن حسين النصر، ويصل في نسبه إلى ردين، أي الجد الأكبر لعدة عائلات عريقة، منها على سبيل المثال: آل الحجي، آل نصر، آل ابراهيم، آل نصرالله، الناجي، البيات، أبوالسعود. وبالرغم من محتد أصله فقد عرف بالتواضع الجم، والنفس المتصالحة مع الذات، والحدب على الآخرين، وهي سمة أساسية لاحظها كل من اقترب منه، وتعامل معه عن قرب في شأن خاص أو عام.

بسبب وعيه الشديد بدور الخطيب ورجل الدين والمفكر، الزاهد في زخرف الحياة، تمكن من الوصول إلى جوهر الحياة بكل عنفوانها، وربما لقربه من المدار الأدبي والثقافي، وتأثره برموز كان على صلة وثيقة بها، ومنهم: الشيخ محمد صالح البريكي، والشيخ ميرزا حسين البريكي، والشيخ منصور البيات، إضافة إلى مشايخ من القطيف والبحرين والإحساء والاحواز بالعراق.

على يد الملا علي بن احمد الدرازي تعلم الخطابة، وفي ذات الوقت درس علوم اللغة العربية وقواعد النحو والصرف، على يد الشيخ حسين القديحي. وكان من الغريب أن يبدأ تجربته الشعرية في سن مبكرة فقد كتب قصائده الأولى في العقد الثاني من عمره، وهو ما يدل دلالة أكيدة على موهبته، وبعد فترة من العمل الجاد أصبح نموذجا يحتذى في الخطابة، بحيث تحول إلى معلم لأجيال قادمة منحها الكثير من خبرته العميقة.

حول مجلسه إلى مكتبة عامرة بالكتب والمراجع الفقهية والمجلدات التراثية الفاخرة، وكان يعير الكتب لزواره، ويظل المكتب مفتوحا حتى في حالات غيابه حيث يتواجد أبناؤه.

شيئا فشيئا تحول المجلس إلى صالون أدبي شهد حوارات خلاقة ومناقشات ساخنة، تعالج مختلف القضايا المجتمعية بعقل يقظ وقلب متسامح، كما أن المجلس ذاته اتسع ليشمل موضوعات في الأدب والشعر والتاريخ والفقه، إضافة إلى مداولات في الشأن الاجتماعي عبر تبني كثير من القضايا لأبناء مجتمعه.

شغفه الواضح بمتابعة الجديد في الكتب والمراجع والدوريات حولت مكتبته إلى نطاق ثقافي يضم كافة الزائرين وضم المجلس مجموعات من المدرسين المصريين وغيرهم من جنسيات عربية من العاملين في سيهات، كذلك سعى لشراء الكتب التي تصدر في الرياض والقاهرة وبغداد ودمشق، بفضل صلاته القوية بعدد من أصدقائه هنا وهناك، وقد ظل يدفع من ماله الخاص كل ما ييسر له الحصول على الكتب الجديدة التي وجد في قراءتها استزادة حقيقية من مناحي الثقافة.

وقد تعددت مصادر معرفته، حيث كانت مكتبته تضم أمهات الكتب، مثل كتب: الطبري، والأصفهاني، والمسعودي، وابن قيتبة، والزمخشري، وابن أبي الحديد.

كما حرص عبدالمحسن النصر على تزويد مكتبته بكتب عدد لا بأس به من المؤلفين العرب، منهم: طه حسين، سلامة موسى، عباس العقاد، ودواوين كبار الشعراء مثل أحمد شوقي، وحافظ ابراهيم، والبارودي، والجواهري، ومن القدامى: البحتري، والمتنبي، وأبو العلاء المعري، وأبا العتاهية، كما جمع الروايات التاريخية لجورجي زيدان لما تبثه في الوجدان من حب واحترام للعرب المسلمين خلال فترات زهوهم وامتداد دولتهم.

لقد وفر له هذا التنوع الفريد فرصة للانفتاح على مختلف المدارس الفكرية، وهو ما اتاح له عقلية مرنة، تجيد الانفتاح على الآخر، والحوار معه من منطقة الثقة بالنفس والقدرة على استيعاب الخطاب المتنوع في دوافعه وأهدافه.

تمكن الرجل من نبذ كل مظاهر التحجر الفكري الذي ران على بعض الخطباء. وهذا ما ميزه، وصار من سماته الشخصية التي يعرفها القاصي والداني.

عرفه الناس إضافة إلى دوره في مجال الخطابة، كشاعر أصيل، وهو ما يوضح أن قراءاته قد انعكست على ملكاته الإبداعية سواء في الشعر أو النثر، فقد كان غزير الانتاج في شعر الفصحى وفي الشعر الشعبي «النبطي»، وتنوعت الأغراض التي صاغ فيها شعره بين المدح، والفخر، والرثاء، والعتاب واللوم، والطرفة، إضافة إلى الإرشاد الديني عبر معالجاته الفنية والجمالية.

عناوين دواوينه الشعرية تؤكد هذا الاتجاه، فله ديوان ”لوعة الحزين في مراثي آل ياسين“، ويجمع الديوان بين الفصحى واللهجة النبطية، وديوان مخطوط بعنوان ”ذكريات ومناسبات“، باللغة الفصحى ويتضمن مجموعة واسعة من القصائد التي تشمل رثاء كتاب ورجال علم سواء داخل البلاد او خارجها.

وديوان مخطوط بعنوان ”من وحي الحياة“، وهو يحوي تأملات فلسفية في الحياة، مع توثيق بعض الأحداث التي مر بها، وتركت أثرا في ذاته.

قدم الرجل معالجات شعرية تتناول قضايا اجتماعية من بينها عدم تواصل الآباء مع جيل الشباب، وقضايا أخرى منها عدم قيام البلديات بشؤون خدمة الناس كالنظافة على سبيل المثال.

وقد اهتم بفن ”الملحمة الشعرية“ عبر رباعيات فنية، تعالج كل منها موضوعا بعينه، فثمة موضوع هجوم الجراد على المدينة، وأزمة الغذاء، وضريبة الجهاد، وهي مواضيع حساسة تناولها الشاعر بفن وحنكة شديدين.

مد بصره لقضايا عربية وإسلامية ومنها محنة فلسطين، واستلاب القدس وهو موضوع شائك تناوله بقدر من الفهم والوعي، كما راح يفضح حقيقة وقوف القوى الغربية ضد الدول المسلمة، منددا بالعدوان والاحتلال الاجنبي للبلدان العربية.

وفي أرى أن عبدالمحسن النصر بلغ أوج شاعريته حين عالج قضية الطائفية والتفرقة المذهبية في قصيدة كتبها في العام 1395 هـ  «1975 م»، وتحوي اثنين وسبعين بيتا، يرد فيها على شخص متعصب كان يريد التفرقة بين الناس على أساس مذاهبهم، ومما قاله في هذا الشأن:

سني أم شيعي كان على السوا

أو ليس كل المسلمين جميعهم

أما الفوارق في الفروع فلم تكن

أم أنت تبغي الناس لا يتفاوتوا

تلك العقول غدت تحل عقالها

فالكل في الإسلام يلتقيان

في حجهم وصلاتهم سيان

تدعو إلى حقد ولا أضغان

في العقل والآراء والعرفان

تمن سوء فهم ساء للإنسان

ويا لها من صرخة مدوية تقف في وجه كل من يريد إيقاع الأذى بمن لا يشاركه الفكر أويقاسمه الرأي. فالله سبحانه وتعالى خلق البشر وجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا ولينشروا الخير والطمأنينة على وجه البسيطة.

سنلاحظ في النص الحكمة التي يظللها عقل يقظ وروح تتسامى فوق الخلافات، فجوهر الدين واحد، مهما اختلفت الطقوس والممارسات أو الفرعيات الدقيقة.

سوء الفهم دائما ما يكون بوابة تعميق الخلافات وهو ما ابتعد عنه الشيخ عبدالمحسن النصر الذي كان صدره يتسع للرأي والرأي الآخر، طالما كان الحوار متحضرا ولا يعرف العصبية ولا النزعة الطائفية.

يحث الشاعر على جمع الكلمة لمحاربة العدو المشترك، ونبذ الخلافات التي تؤدي إلى ضعف الأمة، يقول:

وحاربوا الطائفيات التي أكلت

فالطائفية في الإسلام قد نسجت

تيقضوا يابني الإسلام واتحدوا

عسى تردوا عن الإسلام شرعداً

قد أصبح اليوم دين الحق في قلق

لولا التهاون بالإسلام ما سلبت

وشتتوا أهلها من بعد مذبحة

ولا الجزائر نالت من فرائسها

فيا عروبتنا هبّي على عجل

وعالجي مشكلات الاجتماع بما

وادعي لخير بني الإسلام قاطبة

كيان وحدتنا في السر والعلن

على القلوب نسيج الحقد والإحن

في الشرق في الغرب في الشامات واليمن

من طامع جشع أو خائنً نتن

من كيد أعدائه من كافر ودني

منا فلسطين للصهيون والوثني

أروت دماء الضحايا تربة الوطن

حروب طاحنة ردحاً من الزمن

ووثقي المحنة الكبرى ولا تهني

أوتيت من كرم الأخلاق والفطن

في ظل دين إله العرش ذي المنن

هكذا راح الشاعر يدعو للوحدة ولم الشمل ونبذ الخلاف، رعاية لمصالح الأمة كي تمضي في سبيل بناء حضارة عظيمة تعيد العروبة إلى مقدمة الأمم حيث لا مكان للضعيف أو الجاهل او المتعصب.

اهتم الشاعر بقضايا العروبة، وراح يناصر الشعوب العربية في دفاعها المستميت عن الأرض والعرض والهوية، وظل على هذا الدرب، شاعرا وناثرا وخطيبا.

إن تلك الرؤية الشاملة لقضايا الواقع العربي عند عبدالمحسن النصر جعلته قدوة عند جيل الشباب الذي رأى فيه خير مثال للشاعر صاحب القضية المبدئية، وهو ما يتضح في كثير من قصائده الحية، التي تعبر عن المرحلة.

انحاز الشاعر للشباب فقد رأى فيهم المستقبل والجذوة المشتعلة التي لم تخمد بعد، فتبنى قضاياهم وعمل على مصالحتهم مع مجتمعهم.

لقد كان من تجليات وقوفه مع الشباب تشجيعه المستمر لهم حيث شهد عقد ندوات بنادي سيهات الرياضي وتمثيل مسرحيات بل امتد اهتمامه لكرة القدم حتى وجد كثيرا من التدخلات الادارية التي تحد من رغبته في الانطلاق، وهو ما كشفه في قصيدة قال فيها:

يا لاعبي كرة القدم

ما الذي حققتم

أم أنتم أصلحتم

أم أنتم أنقضتم

ما ذا عملتم للأمم

باللعب من خير أهم

ما انهار منكم وانهدم

كيد العدو وما برم

نبرة السخرية التي تسللت إلى فضاء القصيدة كانت محاولة منه لوضع الأمور في نصابها الصحيح، وقد أراد الشاعر أن يرقى الشباب  الذين يتبنى قضاياهم  إلى مستوى الحدث، وهو ما يتطلب منهم الوعي الشديد، والقدرة على حمل المسئولية الجسيمة.

إن نظرة سريعة لهذا الرجل، متنوع الاهتمامات تثبت لنا من جديد، أن هناك من جيل الرواد رجالا قدموا جهدهم دون انتظار مكافأة على ذلك؛ لأنهم استشعروا أهمية أن يكون الشخص مفيدا لقومه، وأن لا يخضع للسائد والمتواتر بل عليه اكتشاف طاقات خلاقة يعيد بها الاتزان للمجتمع خاصة مع جيل الشباب المتمرد بطبعه لكنه حين يدرك ان هناك فسحة من الأمل فسوف يسارع بالمشاركة والانخراط في عمل مفيد للمجتمع وللذات في نفس الوقت.

لقد سعى عبدالمحسن النصر فوق هذا لمحاربة الخرافات والبدع التي ظل يمارسها البعض في المجتمع باسم الدين، وهي ليست من الدين في شيء، كما كشف بعض المفاهيم الخاطئة التي تتنافى مع العقل والمنطق وصحيح الدين، وهو ما يدلل على عمق نظرته لأوضاع مجتمعه وقربه الشديد من الحقل الميداني، وهو ما يعني قبل هذا وبعده نفوره من التنظير، البعيد عن هموم الواقع ومشاكله.

بسبب مواقفه المبدئية تعرض الرجل لمحن عديدة «فقد سجن مرتين نظرا لمواقفه المبدئية»، خرج منها أقوى حجة مما قبل، لأنه كان يدرك ان التمسك بالمباديء مثل القبض على جمرة نار.

رحم الله الخطيب الجليل عبد المحسن النصر فقد أدى ما عليه، ودفع ثمن اختياراته، وصار مشعل تقدم ينير الدرب لأجيال قادمة من بعده، كان واحدا ممن مهد لها الطريق الصعب: طريق المباديء القويمة والاعتزاز بالوطن، والدفاع عن قيم الخير والحق والجمال.

ملاحظة: تم الرجوع إلى مقالة الأستاذ جعفر عبدالمحسن النصر ”إصلاح الخطاب الديني.. عبد المحسن النصر“ ومقالة الأستاذ عبدالله البراهيم: ”مفترق طرق“ اللتين القيتا في مركز آفاق احتفاء بالخطيب الشاعر النصر.

مولد الرسول صلى الله عليه واله وسلم

طربَ الكون واستطار سرورا

بوليد الإسلام خير نبيٍّ

خيرة الله من جميع البرايا

جاء والناس في ظلامٍ بَهِيمٍ

فوضويون والعبارات شتّى

يغصبون الأموال من غير حقٍّ

فأتى المصطفى بدينٍ منيرٍ

وغدا يملأ الصدور ضياءً

يا لها نعمةً على الناس كبرى

رحمةٌ ساقها الرحيم إلينا

رحمةٌ تبعث التراحم فينا

يا بني الأمة التي شرَّفَتْها

هذه الرحمة التي آلفَتْنا

وبها خير أمةٍ قد دُعيتم

لِمْ بعدتم عنها ورمتم سواها؟

لو أخذتم بها وطبّقتموها

ولسدْتُمْ ممالك الشرق والغَرْ

ولَمَا كان خصمكم يتحدّى

وقد احتلّ أرضكم وتعدَّى

أفهل تَرْقبون نصرًا وأنتم

والعدوُّ تحسّس الضعف فيكم

فإذا كنتمُ تريدون نصرًا

فارفعوا راية المطهِّر فيكم

تنجحوا تُفلحوا تحوزوا انتصارًا

واكتسَى الحق بهجةً وسرورا

جاء للناس هاديًا وبشرا

مصطفًى للورى سراجًا منيرا

لا يكادون يبصرون مسيرا

ليس منهم عدا أثيمًا كفورا

يَئِدون البناتِ بغْيًا وزورا

يمحق الظلم يكسح الديجورا

وإذا بالأعمى يعود بصيرا

قد حمدنا بها لطيفًا خبيرا

لنحوز الْهنا ومُلْكًا كبيرا

وإخًا صادقًا وعيشًا قريرا

رحمةُ المصطفى بشرًا نذيرا

وأضاءت جوانحًا وصدورا

تبعثوا العدل تنكرون الزورا

وانحرفتم إلى الضلال غرورا

لنَعِمْتم سعادةً وسرورا

بِ، وأضحى عدوكم مقهورا

لكمُ جهرةً وكان حقرا

بعد أن كان صاغرًا مدحورا

يمقت البعض بعضكم تحقيرا

واغتدى من خلافكم مسرورا

والعدُوّ اغتدي مَهينًا حقيرا

ودعوا عنكم الخلاف الشريرا

والمُعادي لنا يُرى مثبرا